من بين الأسباب التي تدفع عديداً من الناس إلى الهجرة هو الرغبة في تقديم المساعدة لعائلاتهم في الوطن. هذه المبالغ النقدية الصغيرة تتجمع لتشكل عاملاً اقتصادياً مهماً في العالم كله، غير أنها تتسبب في مشاكل أيضاً.
منذ نحو عشرين عاماً تعمل باربارا تشارنيكي (الاسم مستعار) في ألمانيا. هي سعيدة بحياتها في كولونيا، ومن هناك ترسل بانتظام مبالغ نقدية إلى بولندا. "في كل شهر يتراوح المبلغ بين 300 و400 يورو"، تقول المرأة البالغة من العمر ستة وخمسين عاماً. وتبرر ذلك بقولها إن ابنها لا يكسب في بولندا ما يكفيه. قبل ذلك، تضيف باربارا تشارنيكي كانت تساعد أمها التي كان راتب تقاعدها لا يكفي سوى بالكاد لدفع إيجار الشقة.
هناك العديد من المهاجرين مثل باربارا تشارنيكي الذين يرسلون مبالغ نقدية من دول الاتحاد الأوروبي إلى الوطن، في المتوسط 300 يورو شهرياً. ثلث تلك التحويلات النقدية تذهب إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي، أما الثلثان الآخران فيذهبان إلى دول غير أوروبية، وفي الغالب إلى دول نامية. هذه المبالغ النقدية الصغيرة تتجمع لتشكل عاملاً اقتصادياً مهماً: ويقدر البنك الدولي مثل تلك التحويلات النقدية في العالم بنحو 325 مليار دولار في العام – وهو ما يمثل أكثر من ثلاثة أضعاف معونات التنمية الحكومية المسجلة لدى الأمم المتحدة.
من إنسان لإنسان
هذه التحويلات النقدية تتميز بسمة خاصة، ألا وهي أنها تذهب مباشرة من إنسان إلى إنسان آخر. ليس هناك دولة تستطيع أن تفرض على متلقي تلك التحويلات أو مرسليها كيفية إنفاق النقود. "في العادة تُنفق النقود على المواد الاستهلاكية"، يقول توماس ليبيش، الخبير بشؤون الهجرة لدى منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. في البلدان الفقيرة للغاية تضمن هذه التحويلات للعائلة المعنية البقاء على قيد الحياة على الأقل، وتنفق في المعتاد على الطعام والدواء أو تعليم الأطفال، وهو شيء يساهم في التنمية أيضاً، يقول ليبيش، ثم يضيف الخبير بمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي: "حتى إذا كان من الصعب البرهنة على العلاقة المباشرة بين التنمية والتحويلات النقدية إلى الوطن، فلا يمكننا اعتبار تلك التحويلات مجرد استهلاك قصير الأمد."
ولكن يجب أن تصل الأموال في البداية إلى العائلات في الوطن، حيث كثيراً ما تكون تلك البلدان ما زالت تفتقر إلى شبكة مصرفية. ولهذا يعتمد كثير من المهاجرين على شركات عالمية لتحويل الأموال مثل "ويسترن يونيون" Western Union أو "مونيغرام" Moneygram التي تتقاضى في بعض الأحيان رسوماً عالية مقابل التحويل: فمن يحول على سبيل المثال 300 يورو من ألمانيا إلى المجر يدفع مقابل ذلك رسوماً قدرها 26,50 يورو.
ولكن مساعدة الأحباب في الوطن لا تخلو من مثالب. وتشير عدة دراسات إلى أن التحويلات النقدية قد تؤدي إلى تدهور الوضع المعيشي للعائلات الفقيرة للغاية، إذ أن هذه العائلات لا تستطيع الهجرة، ومن ثم تعاني من التضخم الناشئ عن التحويلات النقدية من الخارج. كما أن عديداً من المهاجرين يستثمرون أموالهم في اقتناء بيت في الوطن، وهو ما يجعل أسعار العقارات ترتفع إلى الحد الذي لا تستطيع فيه العائلات اقتناء شقة إلا إذا كان لها أقارب في الخارج.
الدول المصدرة هي المستفيدة
من الناحية الاقتصادية قد تتسبب التحويلات النقدية إلى الوطن في مشكلات أيضاً. ففي بعض البلدان أصبحت التحويلات النقدية القادمة من الخارج أحد أهم مصادر الدخل في البلاد. في طاجيكستان تمثل تلك التحويلات نصف صافي الدخل القومي، أما في جمهورية مولداو فتشكل الثلث. "عندما يكون الاستيراد أكثر من قدرة الدولة على الإنتاج فإن هذا من الممكن أن يشكل مصدر خطورة على الاقتصاد الوطني"، يقول محذراً توماس ليبيش من منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. ولكن بمرور الوقت، ومع تزايد التنمية الاقتصادية في البلاد المستقبلة للمساعدات، فإن هذا المشكلة تُحل من تلقاء نفسها. "إن نموذج ألمانيا – تركيا يبين ذلك بشكل واضح"، يقول ليبيش. "قبل 50 عاماً، عندما بدأت الهجرة العمالية إلى ألمانيا، كانت التحويلات النقدية من ألمانيا مصدراً اقتصادياً مهماً. اليوم لا تكاد تلعب أي دور في الاقتصاد التركي."
هذا مع أن التحويلات النقدية الشخصية من الخارج ليس هدفها هو دفع التنمية الاقتصادية في بلد ما إلى الأمام. التنمية تتحقق عبر الاستثمارات المباشرة ومعونات التنمية. "وهذا ما يجب أيضاً أن يكون"، يقول الاقتصادي والخبير في شؤون الهجرة ديليب راتا من البنك الدولي. "فالتحويلات المالية إلى الوطن ينبغي ألا تتحول إلى أداة، بل يجب أن تبقى كما هي: مساعدة مباشرة من إنسان إلى إنسان."
الأربعاء مارس 21, 2012 2:35 am من طرف الكنج