"سنظل نطالب بحق أبنائنا ما دمنا أحياء"، بهذه العبارات تؤكد لـ DW أم أحد المهاجرين التونسيين غير الشرعيين الذي غرق في رحلة سرية إلى أوربا، إصرارها على كشف مصير إبنها وملابسات مأساتها ومأساة غيرها من الأمهات التونسيات.
تقطن مريم النفزي في حي التضامن، وهو أكبر حي شعبي بتونس. وعلى الرغم من تواجده بضواحي العاصمة إلا أنه يعاني من الفقر والإهمال وتفشي البطالة. وكان قد ساهم بشكل فعال في الإطاحة بالنظام السابق عندما وصلت شرارة الاحتجاجات الشعبية إلى العاصمة في الأسبوع الأخير من الثورة في يناير/كانون الثاني عام 2011.
ما تزال مريم النفزي والدة محمد الحبوبي (22 سنة) تذكر اليوم الأخير الذي شاهدت فيه ابنها قبل ان يختفي من الوجود وتنقطع أخباره. وفي حديثها مع DW عربية قالت "رأيت شابين مرا على محمد في مثل سنه في ّآخر النهار، بينما كانت الشمس تميل إلى الغروب، حينها كان يشتغل في محل للحلاقة.. وعند الساعة الحادية عشر كلمني عبر الهاتف واعلمني أن رحلته إلى ايطاليا ستنطلق من ميناء سيدي منصور بصفاقس. طلب ان أدعو له قبل ان يجهش بالبكاء ويغلق السماعة".
بعدها بيومين انتشرت الأنباء عبر وسائل الإعلام ووكالات الأنباء عن غرق المركب الذي كان يقل محمد وآخرين، يفوق عددهم المائة، ولم ينجو منهم إلا 56 شخصا وصلوا الى جزيرة لامبيدوزا، وظل العشرات مفقودين دون ان تتمكن البحرية الايطالية من العثور على جثثهم.
وبعد أن تقبلت خبر الفاجعة دأبت السيدة مريم والكثير من أهالي الضحايا والمفقودين على التردد على وزارة الخارجية ووزارة الشؤون الاجتماعية والداخلية ومنظمات المجتمع المدني علها تعثر على الخبر اليقين. ثم عكفت مريم على الذهاب الى وزارة الخارجية كل يوم دون ان تظفر بأي جواب أو أي دليل يؤكد ما إذا كان ابنها على قيد الحياة او ميتا.
لغز المأساة
ولا تختلف قصة مريم عن الأخريات. وتقول سالمة النفزي، وهي من نفس المنطقة لـDW عربية "ابني صابر الجلاصي (25 عاما) اختفى بين عشية وضحاها ولا أملك أي معلومة بشأنه... نريد أبناءنا أحياء أو أموات... نريد الحقيقة".
وتشكك عائلات الضحايا في روايات الحكومة التونسية والسلطة الإيطالية وتعتقد أن هناك لغزاً يجب تفكيكه بشان فقدان أبنائهم.
ناجية العوني والدة أنيس الأخضر (27 عاما)، هاجر إلى ايطاليا في رحلة سرية في شهر مارس / آذار 2011 انطلاقا من ميناء الهوارية باتجاه جزيرة لامبيدوزا الإيطالية ومنذ ذلك الحين لم يتصل بعائلته ولا يعرف مصيره.
قالت ناجية لـ DW عربية "لدينا معلومات بأن القارب وصل سالما الى السواحل الإيطالية لأن والدة أحد المهاجرين شاهدت ابنها في تقرير صحفي مصور بث على أحد القنوات الإيطالية وتم تداوله في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما يتضارب مع ما تعلنه السلطات الإيطالية من أنها لم تستقبل أبناءنا، وبالتالي ترجيح فرضية موتهم". وتضيف العوني "قابلنا رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي وقال لنا إن هناك أيادٍ خفية تقف خلف هذا اللغز".
أحياء أم أموات؟
وبعيدا عن الغموض الذي يحيط بحقيقة المفقودين من المهاجرين إن كانوا أحياء أم أموات، فإن فاجعة غرق المركب أثارت الصدمة في الشارع التونسي وكشفت عن حجم اليأس لدى الشباب، فيما أطلق المعارضون سهامهم تجاه الحكومة بسبب فشل الخطة التنموية.
وقال زهير اليحياوي عضو الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان في حديثه مع DW عربية "المسؤوليات تتقاسمها أطراف عدة، أولا أسلوب التنمية المتبع في السابق ما زال مستمرا إلى حد الآن لا يؤسس لمجتمع يتوفر فيه توزيع عادل للثروة بما يوفر لكل فرد حداً أدنى من رصيد يسمح له بتحسين وضعه المادي. وثانيا تلقى المسؤولية على عصابات التهريب ومنظمي رحلات الهجرة السرية على "قوارب الموت" الذين يقبضون أموالا دون ضمان الوصول إلى الضفة المقابلة. كما تتحمل الدول المضيفة جانبا من المسؤولية كونها لم تساعد دول المصدر على ايجاد خطط تنموية فعالة تعتمد على المزيد من الاستثمار وخلق فرص التشغيل التي يبحث عنها الشباب". ويضيف اليحياوي "الأمر أصبح أكثر مأساوية حينما تشمل الظاهرة فتاة حامل وطفل في الخامسة من عمره. ويمكن أن نفهم درجة الخطورة التي وصلت إليها حالة اليأس لدى الشباب التونسي بوضوح مع استمرار الرحلات وبنفس الوتيرة في نفس الأسبوع الذي حدثت فيه الكارثة. كما أن التونسيين الذين وصلوا إلى لامبيدوزا رفضوا العودة إلى تونس رغم التسهيلات التي قدمتها السلطات".
التنمية الفعالة للحد من الهجرة
ومنذ الإطاحة بنظام بن علي شق الآلاف طريقهم عبر البحر باتجاه سواحل الضفة الشمالية هربا من الفقر والبطالة حيث يبلغ عدد العاطلين عن العمل أكثر من 691 ألفاً، فيما ترتفع نسبة البطالة إلى 17,6 بالمائة. وقد قدر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عدد المهاجرين السريين عبر البحر بنحو أربعين الف.
وأثارت حوادث الغرق المتكررة جدلا في دول الضفة الشمالية للمتوسط بشأن مدى الالتزام باحترام حقوق المهاجرين.
وقال لورانزو بيتساني وهو باحث إيطالي في شؤون الهجرة بجامعة لندن، كان قد زار تونس وشارك في مؤتمر صحفي خصص لدراسة واقع الهجرة بين تونس وإيطاليا، في حديث مع DW "نعمل منذ سنة مع العديد من المنظمات المتخصصة في الهجرة لتطوير وسائل جمع المعلومات حول انتهاك حقوق المهاجرين في البحر وحصر مسارات الهجرة جغرافيا. ويتركز عملنا أساسا على توثيق ما حدث عبر مصادر متعددة، بدءا بالشهود وعائلات الضحايا، ومعاينة قوارب الهجرة وإحصائها، وما تم رصده عبر الأقمار الصناعية، وهو ما سيسمح لنا في النهاية بتحديد ما حصل بدقة من أحداث في عرض البحر وما تعرض له المهاجرون".
وأضاف لورانزو بأنهم يسعون لإرسال "رسالة واضحة إلى منظمات المجتمع المدني والحكومات الأوروبية، وحتى في دول المصدر... توضح حقيقة ما يتعرض له المهاجرون". ويضيف الباحث الإيطالي بأنه لا يجوز الاستمرار "في غلق الحدود والتغاضي عما يحصل من مآسٍ". كما ويجب تحديث آليات المراقبة للحد من الكوارث التي تقع في عرض البحر وإنقاذ المهاجرين، حسب رأيه.