لا تستطيع المجتمعات الانسانية أن تحيا حياة مستقرة ما لم تكن هناك قواعد عامة تنظم العلاقة بين الشعب ونظام الحكم, وهو ما يعرف في الأدبيات العلمية باسم العقد الاجتماعي الذي يحمي حرية الفرد من سطوة السلطة أو طغيان الأغلبية.
وعلي كثرة ما كتب عن هذا العقد منذ اليونان إلي ما بعد العصور الوسطي , فان أنضج من صاغه بين المفكرين والفلاسفة في أنحاء العالم جان جاك روسو (1712 ـ 1778) الذي ليس غريبا عن الثقافة العربية , فقد ترجمت بعض كتبه إليها وأهمها أحلام يقظة جوال منفرد , ترجمة وتعليق ثريا توفيق الذي صدر عن الدار القومية في 1964.
كما ألفت عنه في العربية عدة كتب أولها كتاب محمد حسين هيكل جان جاك روسو حياته وكتبه الذي وضعه في العشرينات من القرن الماضي وصدر مرارا عن دار المعارف , ويذكر فيه هيكل أن ما حببه في روسو نزعته الشرقية التي تتمثل في إعلاء الطبيعة , واعتبارها منبع كل خير وجمال , وهي فكرة أساسية في فلسفة روسو تأثر بها هيكل في مؤلفاته . وفي المكتبة العربية أيضا كتاب جان جاك روسو من تأليف سامي الدهان , صدر في سلسلة اقرأ سنة 1959, يتناول فيه المؤلف حياة جان جاك روسو كانسان ومناضل اشتراكي ديمقراطي عاش مع الشعب , وعاني ما عاني من الآلام والشرور البشرية , حتي أن الثورة الفرنسية حين اندلعت في 1789, بعد رحيل روسو , اتخذت من آثاره إنجيلا تقاوم به الاقطاع والاستبداد , وتفوض الملكية .
وكان روبسير أشهر رجال هذه الثورة التي تناقضت حوله الآراء يعد نفسه تلميذا له . قرأه جيدا , وتشبع بأفكاره في الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان واحترام الدين . ومن الكتب الهامة أيضا في العربية كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو بقلم حسن سعفان , صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 1995.
أما المقالات والفصول التي كتبت عنه في الثقافة العربية فليست بالقليلة , وفي مقدمتها ما كتبه لويس عوض عنه في كتابه دراسات في النظم والمذاهب كتاب الهلال ,1967, ومقال علي أدهم في كتابه شخصيات تاريخية من سقراط الي راسبوتين دار القدس ,1974, ومقال محمد لطفي جمعة في كتاب في الأدب والنقد عالم الكتب ,2000.
وتفيض المكتبة الغربية بالكتب وفصول الكتب عن جان جاك روسو الذي يمثل اتجاها مخالفا لاتجاه دعاة التنوير في عصره , الذين دافعوا عن المجتمع التجاري والصناعي الجديد , كما يخالف دعاة التخطيط الذين نادوا بحكم المستبد العادل .
اختلف جان جاك روسو مع هؤلاء وأولئك , وطرح رؤياه في تحسين وضع البشرية بصورة اتفق معه فيها عدد من كبار الفلاسفة والمبدعين المعاصرين له والتالين عليه , في الشرق والغرب , اتخذوا نفس موقفه , نذكر منهم ليوتولستوي (1828 ـ 1910) الذي أبدي سخطه الشديد علي مادية الحضارة العربية , واستعار من روسو عنوان كتابه الاعترافات الذي يروي فيه تجاربه الروحية , وتحوله الي الدين . ويري كثير من الباحثين في أعمال كل من هيكل وكانت وماركس وسارتر ما يتفق مع روسو .
وعلي كثرة قراءات جان جاك روسو في الفلسفة والأدب والتاريخ التي جابت الثقافات والعصور المختلفة , فإن البذور الأولي لثقافته ووعيه بالحرية والعدالة والديمقراطية , التي أذكت خياله وشعت النور في عقله , كانت من غرس أبيه , اسحق روسو , الذي كان بعد وفاة زوجته بالنسبة لابنه الأب والأم إلي سن العاشرة , وذلك قبل أن تتسلمه سيدة في الأربعين قامت بتربيته , وتعلق بها جان جاك تعلق العاشق بمعشوقته .
ويروي عن هذا الأب الذي كان صانع ساعات ومعلم رقص أنه كان يقطع الليل كله مع ابنه الصغير في قراءة الروايات والتراجم , ولا يهجعان إلي النوم إلا بعد أن تشرق الشمس .
مع هذا الأب طالع الطفل مسرحيات موليير , وكتاب المؤرخ اليوناني بلو تارك عن العظماء الذي يتضمن سير مشاهير الرجال في روما وأثينا . وظل هذا الكتاب في حوزة جان جاك لا يفارقة منذ الطفولة حتي الشيخوخة , لا يمل القراءة فيه .
ولا يقلل من هذا الغرس المبكر الذي يرجع الفضل فيه إلي هذا الأب , ما اكتسبه جان جاك روسو بعد ذلك بنفسه من خبرة عملية بالحياة والأحياء , في نزهاته مع رفقة الشباب , وفي تجواله المنفرد علي الأقدام في البلاد , ومن قراءاته الواسعة التي مكنته من أن يستخلص منها أقصي ما يمكن أن تهبه له من حقائق , ومن اتساع الآفاق التي انبسطت أمامه .
وأكثر من قرأ لهم جان جاك روسو في هذه المرحلة من انتاج بناة الحضارة الحديثة جون لوك (1632-1704) صاحب الرسائل الثلاث الشهيرة في التسامح التي كتبها في سنوات 1692,1690,1689, مدافعا فيها بحرارة عن الحقوق المدنية .
وتمثلت نقطة البداية لجان جاك روسو في إعلان نشر في صحيفة أدبية عن مسابقة تنظمها أكاديمية ديجون في 1750 عن دور العلوم والفنون في الأخلاق : هل تفسدها أم ترقي بها ؟ ! فلم يكد جان جاك أن يقع نظره علي هذا الإعلان حتي اندفع للمشاركة في مسابقتها باعداد بحث طويل فاز به بالجائزة .
وبقيمة هذه الجائزة التي حصل عليها تمكن جان جاك روسو من اقتناء كل ما يريد من كتب يرجع إليها الفضل في اهتدائه الي الفلسفة التي آمن بها وعبر عنها بأسلوب عاطفي يرف بالشاعرية وخلاصة هذه الفلسفة التي مهدت بمنحاها الذاتي لازدهار الرومانسية في القرن الثامن عشر , أن الانسان خير بالفطرة , والفطرة مرادفة للرحمة , وهي سابقة علي التفكير العقلاني الذي يتجلي عادة عند الحاجة , ويعد مظهرا من مظاهر الوحدة الاجتماعية . وكم كان روسو يحن لهذا الزمن الماضي الذي يفيض بالبراءة , لا يعرف الملكية الخاصة , أو التنافس أو العنف . غير أن المجتمع المدني الحديث لم يلبث أن أفسد هذه الفطرة , وعمل علي التفريق بين البشر بسبب هذه الملكية الخاصة التي تؤدي إلي عدم المساواة . وبثروة الأغنياء يولد الترف الذي تنشأ عنه شرور الصراع نتيجة استعباد الأغنياء للفقراء . واذا فقد الإنسان , تحت ضغط هذه الفوارق , حريته فقد بالتالي انسانيته وحقوقه وواجباته جميعا . بذلك يتحول الفردوس الأرضي في الحياة المدنية إلي وهم مزيف باختفاء الرحمة بين البشر , وارتفاع الحواجز بينهم .
وعند جان جاك روسو أنه اذا زاد ما يحصل عليه الإنسان عن حاجته الأساسية اعتبرت هذه الزيادة سرقة اجتماعية . ولتجنب هذا الوبال لا معدي عن العودة الي الطبيعة من أجل المحافظة علي فضائل الإنسان الفطرية , كالصدق والطيبة والبسالة , التي تفوق في القيمة وفي صلاح المجتمع والحضارة التي تفتقد الحكمة , وان لم يستطع روسو أن ينكر أن في الحضارة ما يستحق التقدير , مثل العلم والفن والكتابة .
وللمحافظة علي هذه الفضائل الفطرية يتعين في نظر روسو أن تصبح الأرض ملكا للبشر , وهذا ما حاولت الثورة الروسية علي يد لينين أن تحققه بالغاء الملكية الخاصة للأرض إلي الأبد , وبأن تكون ثمرات الأرض للجميع , ويتم تربية الأطفال وفق السنن الطبيعية , لأن التخلي عن هذه السنن , وإحلال الأوامر الصارمة محل الحرية الفطرية , في هذه التربية , يؤدي إلي نشوء العبيد أو الطغاة . وروسو يمقت كل أشكال الرق والعبودية تمسكا بمبدأ المساواة . ولتحقيق هذه الحياة أو هذا الحلم في ظل الطبيعة استقال روسو من عمله في البنوك , وهجر المدينة .
وكتاب العقد الاختماعي لجان جاك روسو يحمل هذا المضمون الذي يؤكد ان الحياة الاجتماعية الصحيحة هي التي يتراضي عليها البشر بارادة حرة ولا تقتصر علي الجانب المادي فقط , وانما تشمل الأبعاد المادية والروحية في آن واحد .
ولأن العقد الاجتماعي الذي أصدره جان جاك روسو مع كتاب اميل في 1762 خرج علي الأوضاع السياسية القائمة في فرنسا , فقد تنبهت السلطة الي أن الكتاب الأول ضد الحكم , والثاني ضد الدين , فتعرض جان جاك روسو للاضطهاد من الحكومة والكنيسة معا , مما اضطره الي الرحيل في 1766 إلي انجلترا , متخفيا وراء أسماء وهمية , فرارا من هذه المضايقات في السياسة والدين التي تفرض الطاعة العمياء باعتبارها أم الفضائل , من لم يلتزم بها ازاء السلطة الدنيوية والسلطة الدينية , لا يمنح شرف المواطنة , ويلقي جزاءه عن هذا الإثم في الأرض والسماء .
ولم يكن مبدأ الطاعة العمياء يقتصر علي السياسة والدين , بل كان يشمل وجوه الحياة بما فيها التعليم في كل مراحله . وفي انجلترا بدأ هذا الطريد كتابة اعترافاته المليئة بالموبقات التي كان علي يقين بأن أحدا لم يجرؤ علي الادعاء بأنه أفضل منه . وبعد خمس سنين من الغربة عاد جان جاك روسو الي بلاده في سنة 1770, وأخذ يستكمل كتابة هذه الاعترافات الشهيرة , دون أن يكون قد تخلص من الآثار النفسية الحادة التي عاني منها من جراء هذا الاضطهاد , فاختل عقله في السنين الأخيرة من حياته , وتفاقمت عليه العلل .
وتحت تأثير مشاعر الألم والتأذي والمرض والتخليط توفي جان جاك روسو عن ستة وستين عاما , ودفن في مدافن كنيسة سانت جنييف بباريس .
وكان آخر أعماله كتاب أحلام يقظة جوال منفرد الذي يتألف من عشر جولات , استغرق تأليفها من ربيع 1776 الي ما قبل وفاته بقليل في 1778, ويكشف فيه روسو عن كثير من خواطره وخلجاته , ومن جوانب الضعف والقوة والبساطة والتناقض في نفسه , وعن أيام المجد والسعادة التي عاشها , وأيام الذل والاضطهاد والشقاء التي نزلت به .
وبقاء اسم جان جاك روسو في العالمين , وغياب كل الأسماء السياسية والدينية التي اضطهدته , يعني أن قوي القهر والظلام التي أرادت قطع الطريق علي الدولة المدنية الحديثة القائمة علي العقد الاجتماعي لتثبيت الدولة الدينية , لن تستطيع أن تنتصر غير انتصاراتها المؤقتة .
وعلي الرغم من قوة حجة جان جاك روسو فان الدعوة للعودة الي الطبيعة , التي تضع المدنية والحضارة في تناقض معها , يجب أن ينظر اليها في اطارها التاريخي وأبعادها الموضوعية , وليس فقط كحلم مثالي أراد روسو من ورائه أن تحتفظ النفوس بنقائها وطهارتها , كما أراد مثله فولتير (1694 ـ 1778) ولو استطاعت الحداثة وما بعد الحداثة التي تأخذ بالتعدد أن تلتمس من الطبيعة فضائلها الخلقية , كاعلاء الذات الفردية , من غير أن تتنكر للمدنية التي تذوب فيها فردية الفرد , فانها تكون قد جمعت في بناء واحد كل الفضائل الأخلاقية التي يتطلع اليها جان جاك روسو : إعلاء الفرد وتقديس الجماعة , أو التوفيق بين حرية الفرد وحرية المجتمع . وهذا ما يسعي اليه الفكر الانساني والفعل الانساني في عصوره الحديثة .
ومن المسلم به أن هذه الرؤية المؤمنة بالمدنية , المناهضة لرؤية جان جاك روسو , لم تكن غائبة عنه , لأنه في عقده الاجتماعي , وهو بمثابة دستوره , لا يرفض المجتمع المدني علي اطلاقه
والدليل علي ذلك أنه كان ينظر الي هذا المجتمع كخطوة تالية , أو خطوة متقدمة للمجتمع الطبيعي الذي كان النبلاء يملكون فيه الأرض وما عليها من الزرع والمراعي والأقنان , ليس بالقوة ولكن بالوثائق والمستندات , أي بالتشريع والقانون .
وتجدر الاشارة أيضا الي أنه لم يكن خافيا علي جان جاك روسو مصاعب الديمقراطية التي يشترك فيها الشعب بأسره في الحكم , لا بمجرد الوكلاء عنه , الذين يفوضون لهذه الشئون , خاصة في المجتمعات الحزبية والمتفاوتة الطبقات .
غير أن كفة الطبيعة كانت بالنسبة لجان جاك روسو هي الراجحة . أما انعدام الأخلاق والفساد فينسبه الي السلطة المدنية غير الشرعية التي تأتي بالقوة لا بالاتفاق العام بين الناس , ويفتقد فيها المرء حريته ووجهه الحقيقي . والحكومات عند جان جاك روسو ثلاثة أنواع : حكومة شعبية في دولة ديمقراطية , وحكومة ارستقراطية منتخبة من الصفوة , وحكومة ملكية وراثية أو ملكية مطلقة تتركز فيها السلطة في قبضة حاكم واحد .
وواضح أن روسو مع الحكومة الديمقراطية لانها أكثر الحكومات حرصا علي التطور . وبهذه الرؤية الانسانية المتحررة التي تعلي من الطبيعة والقوانين , بغير تناقض مع المدنية , يظل اسم جان جاك روسو حيا في ضمير المثقفين في العالم جيلا بعد جيل , لأنه قدم في الفكر والابداع ما يخدم الانسانية ويرتقي بها , ولا يقف بها عند حدود معينة .
الجمعة مارس 16, 2012 11:59 am من طرف الكنج