في رحلة بين مدينتي ترير وماولبرون في أقصى جنوب غرب ألمانيا، يشاهد الزائر معالم أثرية من عصور مختلفة، هذه المعالم، التي أضحت جزءا من التراث الإنساني العالمي، تشهد على التحولات التاريخية التي شهدتها المنطقة عبر الزمن.
رحلتنا تبدأ من إحدى أقدم المدن في ألمانيا؛ من مدينة ترير. هنا وضع الإمبراطور الروماني أوغسطس سنة 16 قبل الميلاد حجر الأساس لبناء هذه البلدة على ضفاف نهر الموزيل. ويذكر أن هذه المدينة كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية في القرن الرابع. إنها تحتوي على آثار قيمة مثل حمامات الإمبراطور الكبريتية، ومدرج المسرح المكشوف تحت الهواء الطلق، وبوابة المدينة الشهيرة التي يطلق عليها اسم البوابة السوداء "بورتا نيغرا". وتكون مدينة ترير بذلك شاهدة على عصور عدة وتعطي لمحة قيمة عن التاريخ الروماني في ألمانيا، عدا عن أنها شاهدة بمبانيها على العصور القديمة أيضاً.
وتعتبر كاتدرائية المدينة وأيضاً الكنيسة المجاورة، "كنيسة السيدة" مثال على فن معماري عريق. وقد أدرجتا عام 1986 على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونسكو. والجدير بالذكر أن الكاتدرائية قد شيّدت قبل 1700 عام وتعتبر أقدم كنيسة في ألمانيا. ومن البديهي إذاً أن نقرأ على هذا المبنى كل معالم الفنون والأنماط المعمارية الأوروبية التي مرت عبر العصور منذ تشييده إلى يومنا هذا.
نصب تذكاري ومعلم ثقافي
محطتنا الثانية تقع قليلاً باتجاه الجنوب من ترير، حيث هنا النصب التذكاري "شتال هوتّه" في بلدة فولكلينغ. هنا تنتصب المعالم الصناعية شاهقة نحو السماء؛ الأفران العالية ومصنع المعادن الصلبة، وسكك الحديد المعلقة. في القرن الماضي كان آلاف العمال يتصببون عرقاً أثناء عملهم في الأفران العالية الحرارة. واليوم عدا عن أنه أصبح هذا الرمز الصناعي الذي شيد عام 1873 رمزاً لعصر الصناعة من الزمن الماضي، فقد تحول بعد توقف العمل فيه إلى مكان لإقامة الفعاليات الثقافية مثل معارض الرسم والنحت، ومعارض التكنولوجيا الحديثة، عدا عن إقامة الحفلات الموسيقية.
في عام 1994 أدرج هذا الموقع على لائحة التراث العالمي ويكون بذلك أول معلم صناعي حديث في ألمانيا على هذه اللائحة المعهودة. ويذكر أن التجهيزات التقنية التي تميز بها هذا الموقع الصناعي في ألماني، يجعله فريدا من نوعه منه غرب أوروبا!
وعلى بعد مئة وستين كيلومتر غرباً نصل في رحلتنا إلى دير "لورش"، هذا الدير الصغير الذي شيد في القرن الثامن، ترقى في القرن التاسع إلى دير متميز وأخذ دوراً مهماً في المنطقة، حيث زاره الكثير من الحكام والساسة. ويذكر أن بعض الملوك الألمان في العصور الوسطى أوصوا أن يدفنوا فيه بعد مماتهم، وهذا ما حصل أيضاً.
وتعتبر بوابة قاعة المدخل المزخرفة واللافتة للنظر، البناء الوحيد الذي نجا من الحريق الكبير الذي داهم المنطقة عام 1090. يذكر أن هذه البوابة، التي شيّدت على طراز الفن المعماري الذي ينتمي إلى عصر ما قبل الطراز الروماني، تعد واحدة من الآثار القليلة التي تنتمي إلى العهد الكاروليني في ألمانيا. وقد أدرجت عام 1991 جنباً إلى جنب مع البقايا الأثرية لدير "لورش" على لائحة التراث العالمي.
كنائس وأديرة العصور الوسطى
تعتبر كاتدرائية شبايير أكبر كنيسة في أوروبا مازالت قائمة من العصر الروماني. لقد شُيّدت هذه الكاتدرائية أبّان حكم سلالة عائلة "ساليير" من ولاية بفالس التي حكمت المنطقة اعتباراً من عام 1027، وينتمي إليها أكثر من قيصر ألماني.
في القرن السابع عشر دمرت الحروب هذا المبنى الديني أكثر من مرة، وأعيد بناءه من جديد كل مرة. وبذلك تعكس هذه الكاتدرائية تاريخ أثار ألمانيا على مدى مئتي سنة على التوالي. وفي عام 1981 أدرجت هذه الكاتدرائية على لائحة كنوز التراث العالمي، وتكون بذلك ثاني معلم ألماني على هذه اللائحة المعهودة بعد كاتدرائية آخن.
محطتنا الأخيرة في هذه الرحلة هي دير "ماولبرون" الذي كان بشكله المعماري الفريد مصدر إلهام في إعادة ترميم أديرة كثيرة في أوروبا لعصور عديدة. هذا الدير الذي شُيّد في العصور الوسطى أدرج على لائحة اليونسكو المعهودة عام 1993 هو من المواقع القليلة التي مازالت قائمة على شكلها المعماري الأصلي الكامل إلى يومنا هذا. أبنية الدير تعكس عدة أنماط معمارية، مثال على ذلك مبنى الكنيسة الرهبانية الذي شُيّد على النمط المعماري الروماتيكي المتأخر الذي لا يملك الزخرفات. ومبنى صالة الإطعام الذي شُيّد على النمط المعماري القوطي ذو الزخرفات الكثيرة.